الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن العربي: قَوْله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِي قَالَ: سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ يَوْمًا، فَلَبِثْنَا سَاعَةً، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وَارْضِنَا وَارْضَ عَنَّا ثُمَّ قَالَ: أُنْزِلَ على عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ. ثُمَّ قَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حَتَّى خَتَمَ عَشْرَ آيَاتٍ».رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ أَبُو عِيسَى وَقَطَعَهُ.وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَلِّبُ بَصَرَهُ فِي السَّمَاءِ إذَا صَلَّى، فَنَزَلَتْ آيَةٌ».قَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ لَمْ تَكُنْ {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} فَلَا أَدْرِي أَيَّةَ آيَةٍ هِيَ؟ قَالَ الْقَاضِي: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مَقْطُوعٌ مَظْنُونٌ، فَمَقْصُودُهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، فَسُقْنَاهُ عَلَى حَالِهِ لَكُمْ حَتَّى نَكُونَ فِي مَعْرِفَتِهِ سَوَاءً مَعَكُمْ.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:هُوَ الْخُضُوعُ، وَهُوَ الْإِخْبَاتُ، وَالِاسْتِكَانَةُ، وَهِيَ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ أَوْ مُتَقَارِبَةٌ، أَوْ مُتَلَازِمَةٌ؛ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «خَضَعَ لَك سَوَادِي، وَآمَنَ بِك فُؤَادِي».وَحَقِيقَتُهُ السُّكُونُ عَلَى حَالَةِ الْإِقْبَالِ الَّتِي تَأَهَّبَ لَهَا وَاحْتَرَمَ بِهَا بِالسِّرِّ فِي الضَّمِيرِ، وَبِالْجَوَارِحِ فِي الظَّاهِرِ؛ فَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ خَاشِعًا خَاضِعًا»، وَكَذَلِكَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَلْتَفِتُ، وَكَذَلِكَ كَانَ حَفِيدُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ.قَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ لِعُرْوَةِ: لَوْ رَأَيْت قِيَامَ ابْنِ الزُّبَيْرِ يَعْنِي أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ لَقُلْت: غُصْنٌ تَصْفِقُهُ الرِّيَاحُ، وَحِجَارَةُ الْمَنْجَنِيقِ تَقَعُ هَاهُنَا، وَرَضْفٌ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي.وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إذَا قَامَ يُصَلِّي كَأَنَّهُ عُودٌ مِنْ الْخُشُوعِ.وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يُصَلِّي فِي الْحِجْرِ مُرْخِيًا ثِيَابَهُ.فَجَاءَ حَجَرُ الْخَذَّافِ، فَذَهَبَ بِطَائِفَةٍ مِنْ ثَوْبِهِ، فَمَا الْتَفَتَ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إذَا صَلَّى لَا يَتَحَرَّكُ مِنْهُ شَيْءٌ؛ وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ الْعُلَمَاءُ وَهِيَ:الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:إنَّهُ يَضَعُ بَصَرَهُ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالصُّوفِيَّةُ بِأَسْرِهِمْ، فَإِنَّهُ أَحْضَرُ لِقَلْبِهِ، وَأَجْمَعُ لِفِكْرِهِ.قَالَ مَالِكٌ: إنَّمَا يَنْظُرُ أَمَامَهُ، فَإِنَّهُ إنْ حَنَى رَأْسَهُ ذَهَبَ بَعْضُ الْقِيَامِ الْمَنْقُوضِ عَلَيْهِ فِي الرَّأْسِ، وَهُوَ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ مِنْهُ، وَإِنْ أَقَامَ رَأْسَهُ وَتَكَلَّفَ النَّظَرَ بِبَصَرِهِ إلَى الأرض فَتِلْكَ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ وَحَرَجٌ، يَعْرِفُونَ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ؛ وَإِنَّمَا أُمِرْنَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْجِهَةَ بِبَصَائِرِنَا وَأَبْصَارِنَا، أَمَّا إنَّهُ أَفْضَلُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مَتَى قَدَرَ وَكَيْفَ قَدَرَ، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ أَنْ يَرْفَعَ بَصَرَهُ فِي الصَّلَاةِ إلَى السَّمَاءِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ السَّمَاءَ، وَإِنَّمَا أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْجِهَةَ الْكَعْبِيَّةَ، فَإِذَا رَفَعَ بَصَرَهُ فَهُوَ إعْرَاضٌ عَنْ الْجِهَةِ الَّتِي أُمِرَ بِهَا، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لِيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ» وَهِيَ:الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:حَتَّى قَالَ عُلَمَاؤُنَا حِينَ رَأَوْا عَامَّةَ الْخَلْقِ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ سَالِمَةٌ: إنَّ الْمُرَادَ بِالْخَطْفِ هَاهُنَا أَخْذُهَا عَنْ الِاعْتِبَارِ حِينَ يَمُرُّ بِآيَاتِ السَّمَاءِ وَالأرض، وَهُوَ مُعْرِضٌ، وَذَلِكَ أَشَدُّ الْخَطْفِ، وَمِنْ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ بِرَفْعِ الْحَرَجِ الْإِذْنُ فِي أَنْ يَلْحَظَ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي بِبَصَرِهِ وَرَأْسِهِ دُونَ بَدَنِهِ، أَذِنَ الشَّرْعُ فِيهِ، وَهِيَ:الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:فَمِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَلْمَحُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يَلْتَفِتُ».وَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ إذَا صَلَّى لَمْ يَقُلْ هَكَذَا وَهَكَذَا.فَقَالَ: لَكِنَّا نَقُولُ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَنَكُونُ مِثْلَ النَّاسِ؛ إشَارَةً مِنْ ابْنِ عُمَرَ إلَى أَنَّهُ تَكْلِيفٌ يَخْرُجُ إلَى الْحَرَجِ.الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قَالَ: الْإِقْبَالُ عَلَيْهَا.وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يَعْرِفُ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ، وَلَا مَنْ عَلَى يَسَارِهِ.صَلَّيْت الْمَغْرِبَ لَيْلَةً مَا بَيْنَ بَابِ الْأَخْضَرِ، وَبَابِ حِطَّةٍ مِنْ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَمَعَنَا شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَغْرِبِيِّ الزَّاهِدُ، فَلَمَّا سَلَّمْنَا تَمَارَى رَجُلَانِ كَانَا عَنْ يَمِينِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيِّ؛ وَجَعَلَ أَحَدُهُمَا يَقُولُ لِلْآخَرِ: أَسَأْت صَلَاتَك، وَنَقَرْت نَقْرَ الْغُرَابِ.وَالْآخَرُ يَقُولُ لَهُ: كَذَبْت؛ بَلْ أَحْسَنْت وَأَجْمَلْت.فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزَّاهِدِ: أَلَمْ يَكُنْ إلَى جَانِبِك؛ فَكَيْفَ رَأَيْته يُصَلِّي؟ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَا عِلْمَ لِي بِهِ، كُنْت مُشْتَغِلًا بِنَفْسِي وَصَلَاتِي عَنْ النَّاسِ وَصَلَاتِهِمْ.فَخَجِلَ الرَّجُلُ وَأُعْجِبَ الْحَاضِرُونَ بِالْقَوْلِ.وَصَدَقَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزَّاهِدُ؛ لَوْ كَانَ لِصَلَاتِهِ قَدْرٌ، أَوْ لَهُ بِهَا شُغْلٌ وَإِقْبَالٌ بِالْكُلِّيَّةِ لَمَا عَلِمَ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ عَنْ يَسَارِهِ فَضْلًا عَنْ مَعْرِفَتِهِ كَيْفِيَّةَ صَلَاتِهِ، وَإِلَّا فَأَحَدُ الرَّجُلَيْنِ أَسَاءَ صَلَاتَهُ فِي حَذْفِ صِفَاتِهَا، وَاخْتِصَارِ أَرْكَانِهَا، وَهَذَا أَسَاءَ صَلَاتَهُ فِي الِاشْتِغَالِ بِصَلَاةِ هَذَا، حَتَّى ذَهَبَ حِفْظُ صَلَاتِهِ وَخُشُوعُهَا.وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَوْلَك: اللَّهُ أَكْبَرُ يُحَرِّمُ عَلَيْك الْأَفْعَالَ بِالْجِوَارِ، وَالْكَلَامَ بِاللِّسَانِ؛ وَنِيَّةَ الصَّلَاةِ تُحَرِّمُ عَلَيْك الْخَوَاطِرَ بِالْقَلْبِ، وَالِاسْتِرْسَالَ عَنْ الْأَفْكَارِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ ضَبْطَ الشَّرِّ مِنْ السِّرِّ يَفُوتُ طَوْقَ الْبَشَرِ سَمَحَ فِيهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانًا لَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.قَوْله تعالى: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}.فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:مِنْ غَرِيبِ الْقُرْآنِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ الْعَشْرِ هِيَ عَامَّةٌ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، كَسَائِرِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ مُحْتَمَلَةٌ لَهُمْ، فَإِنَّهَا عَامَّةٌ فِيهِمْ، إلَّا قَوْلَهُ: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِلرِّجَالِ خَاصَّةً دُونَ النِّسَاءِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}، وَلَا إبَاحَةَ بَيْنَ النِّسَاءِ وَبَيْنَ مِلْكِ الْيَمِينِ فِي الْفَرْجِ؛ وَإِنَّمَا عُرِفَ حِفْظُ الْمَرْأَةِ فَرْجَهَا مِنْ أَدِلَّةٍ أُخَرَ، كَآيَاتِ الْإِحْصَانِ عُمُومًا وَخُصُوصًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْت حَرْمَلَةَ بْنَ عَبْدِ الْعزيزِ قَالَ: سَأَلْت مَالِكًا عَنْ الرَّجُلِ يَجْلِدُ عُمَيْرَةَ، فَتَلَا هَذِهِ: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ}.وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمْ يَكْنُونَ عَنْ الذَّكَرِ بِعُمَيْرَةَ، وَفِيهِ يَقُولُ الشاعر: إذَا حَلَلْت بِوَادٍ لَا أَنِيسَ بِهِ فَاجْلِدْ عُمَيْرَةَ لَا دَاءٌ وَلَا حَرَجٌ وَيُسَمِّيهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ الِاسْتِمْنَاءَ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ الْمَنِيِّ.وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَلَى وَرَعِهِ يُجَوِّزُهُ، وَيَحْتَجُّ بِأَنَّهُ إخْرَاجُ فَضْلَةٍ مِنْ الْبَدَنِ؛ فَجَازَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، أَصْلُهُ الْفَصْدُ وَالْحِجَامَةُ.وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُدَانَ اللَّهُ إلَّا بِهِ.وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ كَالْفَاعِلِ بِنَفْسِهِ، وَهِيَ مَعْصِيَةٌ أَحْدَثَهَا الشَّيْطَانُ وَأَجْرَاهَا بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى صَارَتْ قِيلَةً، وَيَا لَيْتَهَا لَمْ تُقَلْ، وَلَوْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهَا لَكَانَ ذُو الْمُرُوءَةِ يُعْرِضُ عَنْهَا لِدَنَاءَتِهَا.فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قِيلَ: إنَّهَا خَيْرٌ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ.قُلْنَا: نِكَاحُ الْأَمَةِ وَلَوْ كَانَتْ كَافِرَةً عَلَى مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ بِهِ قَائِلٌ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الِاسْتِمْنَاءَ ضَعِيفٌ فِي الدَّلِيلِ عَارٌ بِالرَّجُلِ الدَّنِيءِ، فَكَيْفَ بِالرَّجُلِ الْكَبِيرِ،الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:قَالَ قَوْمٌ: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ الْفَرْجَ إلَّا بِالنِّكَاحِ أَوْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَالْمُتَمَتِّعَةُ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، وَهَذَا يَضْعُفُ.فَإِنَّا لَوْ قُلْنَا: إنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ جَائِزٌ فَهِيَ زَوْجَةٌ إلَى أَجَلٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الزَّوْجَةِ.وَإِنْ قُلْنَا بِالْحَقِّ الَّذِي أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ مِنْ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ لَمَا كَانَتْ زَوْجَةً، فَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْآيَةِ، وَبَقِيَتْ عَلَى أَصْلِ حِفْظِ الْفَرْجِ وَتَحْرِيمِهِ مِنْ سَبَبِهَا.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا، وَهِيَ الثَّالِثَةُ: {فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ}.فَسُمِّيَ مَنْ نَكَحَ مَا لَا يَحِلُّ عَادِيًا، وَأُوجِبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعُدْوَانِهِ، وَاللَّائِطُ عَادٍ قُرْآنًا وَلُغَةً، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} فَوَجَبَ أَنْ نُقِيمَ الْحَدَّ عَلَيْهِ؛ وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ. اهـ..قال الماوردي: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} فيه ثلاثة أوجه:أحدها: معناه قد سعد المؤمنون ومنه قول لبيد:الثاني: أن الفلاح البقاء ومعناه قد بقيت لهم أعمالهم، وقيل: إنه بقاؤهم في الجنة، ومنه قولهم في الأذان: حي على الفلاح أي حي على بقاء الخير قال طرفة بن العبد: الثالث: أنه إدْراك المطالب قال الشاعر: قال ابن عباس: المفلحون الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا. روى عمر بن الخطاب قال كان النبي صل الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يسمع عند وجهه دويٌ كدوي النحل، فنزل عليه يومًا فلما سرى عنه استقبل القبلة ورفع يديه ثم قال: «اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلاَ تُنْقِصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلاَ تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلاَ تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلاَ تُؤْثِرْ عَلَينَا، وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا» ثم قال: «لَقَدْ أَنْزَلَ على عَشْرَ أَيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ثم قرأ علينا {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حتى ختم العشر. روى أبو عمران الجوني قال قيل لعائشة ما كان خُلُق رسول الله صل الله عليه وسلم؟، قالت أتقرأُون سورة المؤمنون؟ قيل: نعم، قالت اقرأُوا فقرئ عليها {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حتى بَلَغَ {يَحَافِظُونَ}.فقالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم.قوله تعالى: {الَّذِيِنَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} فيه خمسة أوجه:أحدها: خائفون، وهوقول الحسن، وقتادة.والثاني: خاضعون، وهو قول ابن عيسى.والثالث: تائبون، وهو قول إبراهيم.والرابع: أنه غض البصر، وخفض الجناح، قاله مجاهد.الخامس: هو أن ينظر إلى موضع سجوده من الأرض، ولا يجوز بصره مُصَلاه، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره إلى السماء فنزلت: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} فصار لا يجوِّز بصره مُصَلاَّهُ.فصار في محل الخشوع على هذه الأوجه قولان:أحدهما: في القلب خاصة، وهو قول الحسن وقتادة.والثاني: في القلب والبصر، وهو قول الحسن وقتادة.قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} فيه خمسة أوجه:أحدها: أن اللغو الباطل، قاله ابن عباس.الثاني: أنه الكذب، قاله ابن عباس.الثالث: أنه الحلف، قاله الكلبي.الرابع: أنه الشتم لأن كفار مكة كانوا يشتمون المسلمين فهو عن الإِجابة، حكاه النقاش.الخامس: أنها المعاصي كلها، قاله الحسن. اهـ.
|